فصل: تفسير سورة الفلق

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير جزء عــم **


 تفسير سورة التكاثر

{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ‏}‏‏.‏

البسملة تقدم الكلام عليها‏.‏ ‏{‏أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ‏}‏ هذه الجملة جملة خبرية يخبر الله عز وجل بها العباد مخاطبًا لهم يقول‏:‏ ‏{‏أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ‏}‏ ومعنى ‏{‏أَلْهَاكُمُ‏}‏ أي شغلكم حتى لهوتم عن ما هو أهم من ذكر الله تعالى والقيام بطاعته، والخطاب هنا لجميع الأمة إلا أنه يخصص بمن شغلتهم أمور الاخرة عن أمور الدنيا وهم قليل، وإنما نقول هم قليل لأنه ثبت في الصحيحين أن الله تبارك وتعالى يقول يوم القيامة‏:‏ ‏(‏يا آدم، فيقول‏:‏ لبيك وسعديك والخير في يديك، فيقول‏:‏ أخرج من ذريتك بعثًا إلى النار، قال‏:‏ وما بعث النار‏؟‏ قال‏:‏ من كل ألفٍ تسع مئة وتسعة وتسعين‏)‏، واحد في الجنة والباقي في النار، وهذا عدد هائل‏!‏ إذا لم يكن من بني آدم إلا واحدًا من الألف من أهل الجنة والباقون من أهل النار، إذًا فالخطاب بالعموم في مثل هذه الآية جار على أصله، لأن الواحد من الألف ليس بشيء بالنسبة إليه، وأما قوله‏:‏ ‏{‏التَّكَاثُرُ‏}‏ فهو يشمل التكاثر بالمال، والتكاثر بالقبيلة، والتكاثر بالجاه، والتكاثر بالعلم، وبكل ما يمكن أن يقع فيه التفاخر، ويدل لذلك قول صاحب الجنة لصاحبه‏:‏ ‏{‏أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَرًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 34‏]‏‏.‏ فالإنسان قد يتكاثر بماله فيطلب أن يكون أكثر من الاخر مالًا وأوسع تجارة، وقد يتكاثر الإنسان بقبيلته، يقول نحن أكثر منهم عددًا، كما قال الشاعر‏:‏ ولست بالأكثر منهم حصى وإنما العزة للكاثرأكثر منهم حصى؛ لأنهم كانوا فيما سبق يعدون الأشياء بالحصى‏.‏ فمثلًا‏:‏ إذا كان هؤلاء حصاهم عشرة آلاف، والاخرون حصاهم ثمانية آلاف صار الأول أكثر وأعز، فيقول الشاعر‏:‏ لست بالأكثر منهم حصى وإنما العزةُ للكاثر كذلك يتكاثر الإنسان بالعلم، فتجده يكاثر على غيره بالعلم لكن إن كان بالعلم الشرعي فهو خير، وإن كان بالعلم غير الشرعي فهو إما مباح وإما محرم‏.‏ وهذا هو الغالب على بني آدم التكاثر‏.‏ فيتكاثرون في هذه الأمور عما خلقوا له من عبادة الله عز وجل‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ‏}‏ يعني إلى أن زرتم المقابر، يعني إلى أن مُتم، فالإنسان مجبول على التكاثر إلى أن يموت، بل كلما ازداد به الكِبر ازداد به الأمل، فهو يشيب في السن ويشب في الأمل، حتى إن الرجل له تسعون سنة مثلًا تجد عنده من الامال وطول الأمل ما ليس عند الشاب الذي له خمس عشرة سنة‏.‏ هذا هو معنى الآية الكريمة‏.‏ أي‏:‏ أنكم تلهوتم بالتكاثر عن الاخرة إلى أن متم‏.‏ وقيل‏:‏ إن معنى ‏{‏حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ‏}‏ حتى أصبحتم تتكاثرون بالأموات كما تتكاثرون بالأحياء، فيأتي الإنسان فيقول‏:‏ أنا قبيلتي أكثر من قبيلتك وإذا شئت فاذهب إلى القبور عد القبور منا، وعد القبور منكم فأينا أكثر‏؟‏ لكن هذا قول ضعيف بعيد من سياق الآية‏.‏ والمعنى الأول هو الصحيح أنكم تتكاثرون إلى أن تموتوا‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ‏}‏ استدل به عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله - على أن الزائر لابد أن يرجع إلى وطنه، وأن القبور ليست بدار إقامة، وكذلك يذكر عن بعض الأعراب أنه سمع قارىء يقرأ‏:‏ ‏{‏أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ‏}‏ فقال‏:‏ ‏"‏والله ما الزائر بمقيم والله لنبعثن‏"‏، لأن الزائر كما هو معروف يزور ويرجع، فقال‏:‏ والله لنبعثن‏.‏ وهذا هو الحق‏.‏ وبهذا نعرف أن ما يذكره بعض الناس الان في الجرائد وغيرها‏.‏ يقول عن الرجل إذا مات‏:‏ ‏"‏إنه انتقل إلى مثواه الأخير‏"‏، إن هذا كلام باطل وكذب؛ لأن القبور ليس هي المثوى الخير، بل لو أن الإنسان اعتقد مدلول هذا اللفظ لصار كافرًا بالبعث، والكفر بالبعث ردة عن الإسلام، لكن كثيًرا من الناس يأخذون الكلمات ولا يدرون ما معناها، ولعل هذه موروثة عن الملحدين الذين لا يقرون بالبعث بعد الموت، لهذا يجب تجنب هذه العبارة، فلا يقال عن القبر إنه المثوى الأخير؛ لأن المثوى الأخير إما الجنة، وإما النار في يوم القيامة‏.‏ ثم قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ قيل‏:‏ إن ‏{‏كَلاَّ‏}‏ بمعنى الردع يعني‏:‏ ارتدعوا عن هذا التكاثر، وقيل‏:‏ إنها بمعنى حقًّا، ومعنى ‏{‏سَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ سوف تعلمون عاقبة أمركم إذا رجعتم إلى الاخرة، وأن هذا التكاثر لا ينفعكم‏.‏ وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيما رواه مسلم ‏(‏يقول ابن آدم‏:‏ مالي ومالي - يعني‏:‏ يفتخر به - وليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت‏)‏ والباقي تاركه لغيرك وهذا هو الحق، أموالنا التي بين أيدينا‏.‏ إما أن نأكلها فتفنى، وإما أن نلبسها فتبلى، وإما أن نتصدق بها فنمضيها وتكون أمامنا يوم القيامة‏.‏ وإما أن نتركها لغيرنا لا يمكن أن يخرج المال الذي بأيدينا عن هذه القسمة الرباعية‏.‏ ‏{‏كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ سوف تعلمون عاقبة أمركم بالتكاثر الذي ألهاكم عن الاخرة ‏{‏ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ وهذه الجملة تأكيد للردع مرة ثانية، ثم قال‏:‏ ‏{‏كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ‏}‏ يعني‏:‏ حقًّا لو تعلمون علم اليقين لعرفتم أنكم في ضلال، ولكنكم لا تعلمون علم اليقين، لأنكم غافلون لاهون في هذه الدنيا،ولو علمتم علم اليقين لعرفتم أنكم في ضلال وفي خطأ عظيم‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ‏}‏ ‏{‏لَتَرَوُنَّ‏}‏ هذه الجملة مستقلة ليست جواب ‏"‏لو‏"‏ ولهذا يجب على القارئ أن يقف عند قوله‏:‏ ‏{‏كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ‏}‏ ونحن نسمع كثيرًا من الأئمة يصلون فيقولون ‏{‏كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ‏}‏ وهذا الوصل إما غفلة منهم ونسيان، وإما أنهم لم يتأملوا الآية حق التأمل، وإلا لو تأملوها حق التأمل لوجدوا أن الوصل يفسد المعنى لأنه إذا قال ‏{‏كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ‏}‏ صار رؤية الجحيم مشروطة بعلمهم، وهذا ليس بصحيح، لذلك يجب التنبه والتنبيه لهذا من سمع أحد يقرأ ‏{‏كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ‏}‏ ينبه ويقول له‏:‏ يا أخي هذا الوصل يوهم فساد المعنى، فلا تصل وقف، أولًا‏:‏ لأنها رأس آية، والمشروع أن يقف الإنسان عند رأس كل آية، وثانيًا‏:‏ أن الوصل يفسد المعنى ‏{‏كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ‏}‏ إذًا ‏{‏لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ‏}‏ جملة مستأنفة لا صلة لها بما قبلها، وهي جملة قسمية، فيما قسم مقدر والتقدير‏:‏ والله لترون الجحيم، ولهذا يقول المعربون في إعرابها‏:‏ إن اللام موطئة للقسم، وجملة ‏{‏ تَرَوُنَّ‏}‏ هي جواب القسم، والقسم محذوف والتقدير ‏"‏والله لترون الجحيم‏"‏ و‏{‏الْجَحِيمَ‏}‏ اسم من أسماء النار ‏{‏ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ‏}‏ تأكيد لرؤيتها، ومتى ترى‏؟‏ تُرى يوم القيامة، يؤتى بها تُجر بسبعين ألف زمام، كل زمام يجره سبعون ألف ملك، فما ظنك بهذه النار - والعياذ بالله - إنها نار كبيرة عظيمة لأن فيها سبعين ألف زمام، كل زمام يجره سبعون ألف ملك، والملائكة عظام شداد فهي نار عظيمة - أعاذنا الله منها‏.‏ ‏{‏ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ‏}‏ يعني‏:‏ ثم في ذلك الوقت في ذلك الموقف العظيم تسألن عن النعيم، واختلف العلماء رحمهم الله في قوله‏:‏ ‏{‏لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ‏}‏ هل المراد الكافر، أو المراد المؤمن والكافر‏؟‏ والصواب‏:‏ أن المراد المؤمن والكافر كل يسأل عن النعيم، لكن الكافر يسأل سؤال توبيخ وتقريع، والمؤمن يسأل سؤال تذكير، والدليل على أنه عام ما جرى في قصة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأبي بكر وعمر، فعن أبي هريرة قال‏:‏ ‏(‏خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - ذات يوم أو ليلة، فإذا هو بأبي بكر وعمر، فقال‏:‏ ‏"‏ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة‏؟‏‏"‏ قالا‏:‏ الجوع، يا رسول الله‏!‏ قال‏:‏ ‏"‏وأنا، والذي نفسي بيده‏!‏ لأخرجني الذي أخرجكما، قوموا‏"‏ فقاموا معه، فأتى رجلًا من الأنصار، فإذا هو ليس في بيته، فلما رأته المرأة قالت‏:‏ مرحبًا‏!‏ وأهلًا‏!‏ فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - ‏:‏ ‏"‏أين فلان‏؟‏‏"‏ قالت‏:‏ ذهب يستعذب لنا من الماء، إذ جاء الأنصاري فنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - وصاحبه، ثم قال‏:‏ الحمد لله، ما أحد اليوم أكرم أضيافًا مني، قال‏:‏ فانطلق فجاءهم بعذق فيه بُسر وتمر ورطب، فقال‏:‏ كلوا من هذه، وأخذ المدية، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - ‏:‏ ‏"‏إياك‏!‏ والحلوب‏"‏ فذبح لهم، فأكلوا من الشاة، ومن ذلك العذق، وشربوا، فلما أن شبعوا ورووا، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - لأبي بكر وعمر‏:‏ ‏"‏والذي نفسي بيده‏!‏ لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوع، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم‏"‏‏)‏‏.‏ وفي رواية أخرى‏:‏ ‏(‏هذا والذي نفسي بيده من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة، ظل بارد، ورطب طيب، وماء بارد‏)‏‏.‏وهذا دليل على أن الذي يُسأل المؤمن والكافر‏.‏ ولكن يختلف السؤال، سؤال المؤمن سؤال تذكير بنعمة الله عز وجل عليه حتى يفرح، ويعلم أن الذي أنعم عليه في الدنيا ينعم عليه في الاخرة، بمعنى أنه إذا تكرم بنعمته عليه في الدنيا تكرم عليه بنعمته في الاخرة، أما الكافر فإنه سؤال توبيخ وتنديم‏.‏ نسأل الله تعالى أن يستعملنا في طاعته، وأن يجعل ما رزقنا عونًا على طاعته، إنه على كل شيء قدير‏.‏

 تفسير سورة العصر

{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ‏}‏‏.‏

البسملة تقدم الكلام عليها‏.‏ يقول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ‏}‏ أقسم الله تعالى بالعصر، والعصر قيل‏:‏ إن المراد به آخر النهار، لأن آخر النهار أفضله، وصلاة العصر تسمى الصلاة الوسطى، أي‏:‏ الفضلى كما سماها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بذلك‏.‏ وقيل‏:‏ إن العصر هو الزمان‏.‏ وهذا هو الأصح أقسم الله به لما يقع فيه من اختلاف الأحوال، وتقلبات الأمور، ومداولة الأيام بين الناس وغير ذلك مما هو مشاهد في الحاضر، ومتحدث عنه في الغائب‏.‏ فالعصر هو الزمان الذي يعيشه الخلق، وتختلف أوقاته شدة ورخاء، وحربًا وسلمًا، وصحة ومرضًا، وعملًا صالحًا وعملًا سيئًا إلى غير ذلك مما هو معلوم للجميع‏.‏ أقسم الله به على قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ‏}‏ والإنسان هنا عام، لأن المراد به الجنس، وعلامة الإنسان الذي يراد به العموم أن يحل محل ‏"‏ال‏"‏ كلمة ‏"‏كل‏"‏ فهنا لو قيل‏:‏ كل إنسان في خسر لكان هذا هو المعنى‏.‏ ومعنى الآية الكريمة أن الله أقسم قسمًا على حال الإنسان أنه في خسر أي‏:‏ في خسران ونقصان في كل أحواله، في الدنيا وفي الاخرة إلا من استثنى الله عز وجل‏.‏ وهذه الجملة مؤكدة بثلاث مؤكدات، الأول‏:‏ القسم، والثاني‏:‏ ‏(‏إنّ‏)‏ والثالث‏:‏ ‏(‏اللام‏)‏ وأتى بقوله ‏{‏لَفِي خُسْرٍ‏}‏ ليكون أبلغ من قوله‏:‏ ‏(‏لخاسر‏)‏ وذلك أن ‏"‏في‏"‏ للظرفية فكأن الإنسان منغمس في الخسر، والخسران محيط به من كل جانب‏.‏ ‏{‏إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ‏}‏‏.‏ استثنى الله سبحانه وتعالى هؤلاء المتصفين بهذه الصفات الأربع‏:‏ الصفة الأولى‏:‏ الإيمان الذي لا يخالجه شك ولا تردد بما بينه الرسول - صلى الله عليه وسلّم - حين سأله جبريل عن الإيمان قال‏:‏ ‏(‏أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الاخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره‏)‏‏.‏ وشرح هذا الحديث يطول وتكلمنا عليه في مواطن كثيرة، فالذين آمنوا بهذه الأصول الستة هم المؤمنون، ولكن يجب أن يكون إيمانًا لا شك معه ولا تردد‏.‏ بمعنى‏:‏ أنك تؤمن بهذه الأشياء وكأنك تراها رأي العين‏.‏ والناس في هذا المقام ثلاثة أقسام‏:‏ القسم الأول‏:‏ مؤمن خالص الإيمان؛ إيمانًا لا شك فيه ولا تردد‏.‏ والقسم الثاني‏:‏ كافر جاحد منكر‏.‏ والقسم الثالث‏:‏ متردد‏.‏ والناجي من هؤلاء القسم الأول الذي يؤمن إيمانًا لا تردد فيه، يؤمن بوجود الله، وربوبيته، وألوهيته، وبأسمائه وصفاته عز وجل، ويؤمن بالملائكة وهم عالم غيبي خلقهم الله تعالى من نور، وكلفهم بأعمال منها ما هو معلوم، ومنها ما ليس بمعلوم، فجبريل - صلى الله عليه وآله وسلم - مكلف بالوحي ينزل به من عند الله إلى الأنبياء والرسل، وميكائيل مكلف بالقطر والنبات يعني‏:‏ وكله الله على المطر وكل ما يتعلق بالمطر وعلى النبات‏.‏ وإسرافيل‏:‏ موكل بالنفخ بالصور، ومالك‏:‏ موكل بالنار، ورضوان موكل بالجنة‏.‏ ومن الملائكة من لا نعلم أسمائهم ولا نعلم أعمالهم أيضًا، لكن جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه ما من موضع أربع أصابع في السماء إلا وفيه ملك قائم لله أو راكع، أو ساجد‏"‏، كذلك نؤمن بالكتب التي أنزلها الله على الرسل عليهم الصلاة والسلام، ونؤمن بالرسل الذين قصهم الله علينا، نؤمن بهم بأعيانهم، والذين لم يقصهم علينا نؤمن بهم إجمالًا؛ لأن الله لم يقص علينا جميع أنباء الرسل، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 78‏]‏‏.‏ واليوم الاخر هو يوم البعث يوم يخرج الناس من قبورهم للجزاء حفاة، عراة، غرلًا، بهمًا‏.‏ فالحفاة يعني الذين ليس عليهم نعال ولا خفاف أي‏:‏ أقدامهم عارية، والعراة‏:‏ الذين ليس عليهم ثياب، والغرل‏:‏ الذين لم يُختنوا‏.‏ والبهم‏:‏ الذين ليس معهم مال يحشرون كذلك، ولما حدث النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بأنهم عراة قالت عائشة‏:‏ ‏(‏يا رسول الله الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏الأمر أعظم من ذلك‏"‏‏)‏ أي من أن ينظر بعضهم إلى بعض، لأن الناس كل مشغول بنفسه‏.‏ قال شيخ الإسلام رحمه الله‏:‏ ومن الإيمان باليوم الاخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مما يكون بعد الموت، فيجب أن تؤمن بفتنة القبر أي‏:‏ بالاختبار الذي يكون للميت إذا دفن وتولى عنه أصحابه، فإنه يأتيه ملكان يسألانه عن ربه، ودينه، ونبيه، وتؤمن كذلك بأن القبر إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النار‏.‏ أي أن فيه العذاب أو الثواب، وتؤمن كذلك بالجنة والنار وكل ما يتعلق باليوم الاخر فإنه داخل في قولنا ‏(‏أن تؤمن بالله واليوم الآخر‏)‏ والقدر‏:‏ تقدير الله عز وجل يعني‏:‏ يجب أن تؤمن بأن الله تعالى قدر كل شيء وذلك أن الله خلق القلم فقال له‏:‏ اكتب‏.‏ قال‏:‏ وماذا أكتب‏؟‏ قال‏:‏ اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة‏.‏ فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة‏.‏ إذًا فالإيمان في قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ يشمل الإيمان بالأصول الستة التي بينها الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم ـ‏.‏ أما قوله‏:‏ ‏{‏وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ‏}‏ فمعناه‏:‏ أنهم قاموا بالأعمال الصالحة‏:‏ من صلاة، وزكاة، وصيام، وحج، وبر للوالدين، وصلة الأرحام وغير ذلك فلم يقتصروا على مجرد ما في القلب بل عملوا وأنتجوا و‏{‏الصَّالِحَاتِ‏}‏ هي التي اشتملت على شيئين‏:‏ الأول‏:‏ الإخلاص لله عز وجل‏.‏ والثاني‏:‏ المتابعة للرسول - صلى الله عليه وآله وسلم ـ‏.‏ وذلك أن العمل إذا لم يكن خالصًا لله فهو مردود‏.‏ قال الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي الذي يرويه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال الله‏:‏ ‏(‏أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه‏)‏‏.‏ فلو قمت تصلي مراءاة للناس، أو تصدقت مراءاة للناس، أو طلبت العلم مراءاة للناس، أو وصلت الرحم مراءاة للناس أو غير ذلك‏.‏ فالعمل مردود حتى وإن كان صالحًا في ظاهره‏.‏ كذلك الاتباع لو أنك عملت عملًا لم يعمله الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - وتقربت به إلى الله مع الإخلاص لله فإنه لا يقبل منك لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال‏:‏ ‏(‏من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد‏)‏‏.‏ إذًا العمل الصالح ما جمع وصفين‏:‏ الأول‏:‏ الإخلاص لله عز وجل‏.‏ والثاني‏:‏ المتابعة للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم‏.‏ ‏{‏وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ‏}‏ أي‏:‏ صار بعضهم يوصي بعضًا بالحق‏.‏ والحق‏:‏ هو الشرع‏.‏ يعني كل واحد منهم يوصي الاخر إذا رآه مفرطًا في واجب‏.‏ أوصاه وقال‏:‏ يا أخي قم بالواجب، إذا رآه فاعلًا لمحرم أوصاه قال‏:‏ يا أخي اجتنب الحرام، فهم لم يقتصروا على نفع أنفسهم بل نفعوا أنفسهم وغيرهم، ‏{‏وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ‏}‏ أي‏:‏ يوصي بعضهم بعضًا بالصبر، والصبر حبس النفس عما لا ينبغي فعله، وقسمه أهل العلم إلى ثلاثة أقسام‏:‏ القسم الأول‏:‏ صبر على طاعة الله‏.‏ القسم الثاني‏:‏ صبر عن محارم الله‏.‏ القسم الثالث‏:‏ صبر على أقدار الله‏.‏ الصبر على الطاعة، كثير من الناس يكون فيه كسل عن الصلاة مع الجماعة مثلًا‏:‏ لا يذهب إلى المسجد يقول أصلي في البيت وأديت الواجب فيكسل فقال له‏:‏ يا أخي أصبر نفسك، احبسها كلفها على أن تصلي مع الجماعة‏.‏ كثير من الناس إذا رأى زكاة ماله كثيرة شح وبخل وصار يتردد‏.‏ أُخرج هذا المال الكثير، أو أتركه وما أشبه ذلك‏.‏ فيقال له‏:‏ يا أخي اصبر نفسك على أداء الزكاة، وهكذا بقية العبادات فإن العبادات كما قال الله تعالى في الصلاة‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 45‏]‏‏.‏ أكثر عباد الله تجد أن العبادات عليهم ثقيلة، فهم يتواصون بالصبر على الطاعة، كذلك الصبر عن المعصية بعض الناس مثلًا تجره نفسه إلى أكساب محرمة إما بالربا، وإما بالغش، وإما بالتدليس أو بغير ذلك من أنواع الحرام فيقال له‏:‏ اصبر يا أخي أصبر نفسك لا تتعامل على وجه محرم‏.‏ بعض الناس أيضًا يبتلى بالنظر إلى النساء تجده ماشيًا في السوق وكل ما مرت امرأة أتبعها بصره فيقال له‏:‏ يا أخي اصبر نفسك عن هذا الشيء‏.‏ ويتواصون على أقدار الله، يصاب الإنسان بمرض في بدنه، يصاب الإنسان بفقد شيء من ماله، يصاب الإنسان بفقد أحبته فيجزع ويتسخط ويتألم فيتواصون فيما بينهم، اصبر يا أخي هذا أمر مقدر والجزع لا يفيد شيئًا، واستمرار الحزن لا يرفع الحزن، إنسان امتحن بموت ابنه نقول‏:‏ يا أخي اصبر، قدر أن هذا الابن لم يُخلق، ثم كما قال الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - لإحدى بناته‏:‏ ‏(‏إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب‏)‏‏.‏ الأمر كله لله، فإذا أخذ الله تعالى ملكه كيف تعتب على ربك‏؟‏ كيف تتسخط‏.‏ فإن قيل‏:‏ أي أنواع الصبر أشق على النفوس‏؟‏ فالجواب‏:‏ هذا يختلف، فبعض الناس يشق عليه القيام بالطاعة وتكون ثقيلة عليه جدًا، وبعض الناس بالعكس الطاعة هينة عليه، لكن ترك المعصية صعب، شاق مشقة كبيرة، وبعض الناس يسهل عليه الصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية، لكن لا يتحمل الصبر على المصائب، يعجز حتى إنه قد تصل به الحال إلى أن يرتد - والعياذ بالله - كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 11‏]‏‏.‏ إذًا نأخذ من هذه السورة أن الله سبحانه وتعالى أكد بالقسم المؤكد بإن، واللام أن جميع بني آدم في خسر، والخسر محيط بهم من كل جانب، إلا من اتصف بهذه الصفات الأربع‏:‏ الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر‏.‏ قال الإمام الشافعي - رحمه الله - ‏:‏ ‏"‏لو لم ينزل الله على عباده حجة إلا هذه السورة لكفتهم‏"‏‏.‏ يعني‏:‏ كفتهم موعظة وحثًا على التمسك بالإيمان والعمل الصالح، والدعوة إلى الله، والصبر على ذلك‏.‏ وليس مراده أن هذه السورة كافية للخلق في جميع الشريعة، لكن كفتهم موعظة، فكل إنسان عاقل يعرف أنه في خُسر إلا إذا اتصف بهذه الصفات الأربع، فإنه سوف يحاول بقدر ما يستطيع أن يتصف بهذه الصفات الأربع، وإلى تخليص نفسه من الخسران‏.‏ نسأل الله أن يجعلنا من الرابحين الموفقين، إنه على كل شيء قدير‏.‏

 تفسير سورة الهمزة

{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ‏}‏‏.‏

البسملة تقدم الكلام عليها‏.‏ ‏{‏وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ‏}‏ في هذه السورة يبتدئ الله سبحانه وتعالى بكلمة ‏{‏وَيْلٌ‏}‏ وهي كلمة وعيد، أي أنها تدل على ثبوت وعيد لمن اتصف بهذه الصفات‏.‏ ‏{‏هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ‏}‏ إلى آخره، وقيل‏:‏ إن ‏{‏وَيْلٌ‏}‏ اسم لوادٍ في جهنم ولكن الأول أصح‏.‏ ‏{‏لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ‏}‏ كل من صيغ العموم، والهمزة واللمزة وصفان لموصوف واحد، فهل هما بمعنى واحد‏؟‏ أو يختلفان في المعنى‏؟‏ قال بعض العلماء‏:‏ إنهما لفظان لمعنى واحد، يعني أن الهمزة هو اللمزة‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ بل لكل واحد منهما معنى غير المعنى الاخر‏.‏ وثم قاعدة أحب أن أنبه عليها في التفسير وغير التفسير وهي‏:‏ أنه إذا دار الأمر بين أن تكون الكلمة مع الأخرى بمعنى واحد، أو لكل كلمة معنى، فإننا نجعل لكل واحدة معنى، لأننا إذا جعلنا الكلمتين بمعنى واحد صار في هذا تكرار لا داعي له، لكن إذا جعلنا كل واحدة لها معنى صار هذا تأسيسًا وتفريقًا بين الكلمتين، والصحيح في هذه الآية ‏{‏لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ‏}‏ أن بينهما فرقًا‏:‏ فالهمزة‏:‏ بالفعل‏.‏ واللمز‏:‏ باللسان، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 58‏]‏‏.‏ فالهمز بالفعل يعني أنه يسخر من الناس بفعله إما أن يلوي وجهه، أو يعبس بوجهه‏.‏ أو ما أشبه ذلك، أو بالإشارة يشير إلى شخص، انظروا إليه ليعيبه أو ما أشبه ذلك، فالهمز يكون بالفعل، واللمز باللسان، وبعض الناس - والعياذ بالله - مشغوف بعيب البشر إما بفعله وهو الهمَّاز، وإما بقوله وهو اللمَّاز، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 10، 11‏]‏‏.‏ ‏{‏الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ‏}‏ هذه أيضًا من أوصافه القبيحة جماع مناع، يجمع المال، ويمنع العطاء، فهو بخيل لا يعطي يجمع المال ويعدده‏.‏ ‏{‏وَعَدَّدَهُ‏}‏ وقيل‏:‏ معنى التعديد يعني الإحصاء يعني لشغفه بالمال كل مرة يذهب إلى الصندوق ويعد، يعد الدراهم في الصندوق في الصباح، وفي آخر النهار يعدها، وهو يعرف أنه لم يأخذ منه شيئًا ولم يضف إليه شيئًا لكن لشدة شغفه بالمال يتردد عليه ويعدده، ولهذا جاءت بصيغة المبالغة ‏{‏عَدَّدَهُ‏}‏ يعني أكثر تعداده لشدة شغفه ومحبته له يخشى أن يكون نقص، أو يريد أن يطمئن زيادة على ما سبق فهو دائمًا يعدد المال‏.‏ وقيل معنى ‏{‏عَدَّدَهُ‏}‏ أي جعله عُدة له يعني ادخره لنوائب الدهر، وهذا وإن كان اللفظ يحتمله لكنه بعيد، لأن إعداد المال لنوائب الدهر مع القيام بالواجب بأداء ما يجب فيه من زكاة وحقوق ليس مذمومًا، وإنما المذموم أن يكون أكبر هم الإنسان هو المال، يتردد إليه ويعدده، وينظر هل زاد، هل نقص، فالقول بأن المراد عدده أي‏:‏ جمعه للمستقبل قول ضعيف‏.‏ ‏{‏يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ‏}‏ يعني يظن هذا الرجل أن ماله سيخلده ويبقيه، إما بجسمه وإما بذكره، لأن عمر الإنسان ليس ما بقي في الدنيا، بل عمر الإنسان حقيقة ما يخلده بعد موته، ويكون ذكراه في قلوب الناس وعلى ألسنتهم، فيقول في هذه الآية‏:‏ ‏{‏يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ‏}‏ أي‏:‏ أخلد ذكره أو أطال عمره، والأمر ليس كذلك‏.‏ فإن أهل الأموال إذا لم يُعرفوا بالبذل والكرم فإنهم يخلدون لكن بالذكر السيىء‏.‏ فيقال‏:‏ أبخل من فلان، وأبخل من فلان ويذكر في المجالس ويعاب، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ‏}‏ ‏{‏كَلاَّ‏}‏ هنا يسميها العلماء حرف ردع أي‏:‏ تردع هذا القائل أو هذا الحاسب عن قوله أو عن حسبانه‏.‏ ويحتمل أن تكون بمعنى حقًّا ‏"‏يعني حقًا لينبذن‏"‏ وكلاهما صحيح، هذا الرجل لن يخلده ماله، ولن يخلد ذكراه، بل سينسى ويطوى ذكره، وربما يذكر بالسوء لعدم قيامه بما أوجب الله عليه من البذل‏.‏ ‏{‏لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ‏}‏ اللام هذه واقعة في جواب القسم المقدر، والتقدير ‏"‏والله لينبذن في الحطمة‏"‏ أي‏:‏ يطرح طرحًا‏.‏ وإذا قلنا‏:‏ أن اللام لجواب القسم صارت هذه الجملة مؤكدة باللام، ونون التوكيد، والقسم المحذوف‏.‏ ومثل هذا كثير في القرآن الكريم، أي تأكيد الشيء باليمين، واللام، والنون‏.‏ والله تعالى يقسم بالشيء تأكيدًا له وتعظيمًا لشأنه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لَيُنبَذَنَّ‏}‏ ما الذي يُنبذ هل هو صاحب المال أو المال‏؟‏ كلاهما ينبذ، أما صاحب المال فإن الله يقول في آية أخرى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 13‏]‏‏.‏ أي‏:‏ يدفعون، وهنا يقول‏:‏ ‏"‏ينبذ‏"‏ أي يطرح في الحطمة، والحطمة هي التي تحطم الشيء، أي‏:‏ تفتته وتكسره فما هي‏؟‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ‏}‏ وهذه الصيغة للتعظيم والتفخيم ‏{‏نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ‏}‏ هذا الجواب أي‏:‏ هي نار الله الموقدة‏.‏ وأضافها الله سبحانه وتعالى إلى نفسه؛ لأنه يعذب بها من يستحق العذاب فهي عقوبة عدل وليست عقوبة ظلم‏.‏ أي‏:‏ نار يحرق الله بها من يستحق أن يُعذب بها، إذًا هي نار عدل وليست نار ظلم‏.‏ لأن الإحراق بالنار قد يكون ظلمًا وقد يكون عدلًا، فتعذيب الكافرين في النار لا شك أنه عدل، وأنه يُثنى به على الرب عز وجل حيث عامل هؤلاء بما يستحقون‏.‏ وتأمل قوله‏:‏ ‏{‏الْحُطَمَةُ‏}‏ مع فعل هذا الفاعل ‏{‏هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ‏}‏ حطمة، وهمزة لمزة، على وزن واحد ليكون الجزاء مطابقًا للعمل حتى في اللفظ ‏{‏نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ‏}‏ أي‏:‏ المسجّرة المسعرة‏.‏ ‏{‏الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ‏}‏ الأفئدة جمع فؤاد وهو القلب‏.‏ والمعنى‏:‏ أنها تصل إلى القلوب - والعياذ بالله - من شدة حرارتها، مع أن القلوب مكنونة في الصدور وبينها وبين الجلد الظاهر ما بينها من الطبقات لكن مع ذلك تصل هذه النار إلى الأفئدة‏.‏ ‏{‏إِنَّهَا عَلَيْهِم‏}‏ أي‏:‏ الحطمة وهي نار الله الموقدة أي على الهمَّاز واللمَّاز الجمَّاع للمال المناع للخير، وأعاد الضمير بلفظ الجمع مع أن المرجع مفرد باعتبار المعنى، لأن ‏{‏لِّكُلِّ هُمَزَةٍ‏}‏ عام يشمل جميع الهمَّازين وجميع اللمَّازين ‏{‏مُّؤْصَدَةٌ‏}‏ أي‏:‏ مغلقة، مغلقة الأبواب لا يُرجى لهم فرج - والعياذ بالله - ‏{‏كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا‏}‏ يعني‏:‏ يرفعون إلى أبوابها حتى يطمعوا في الخروج ثم بعد ذلك يركسون فيها ويعادون فيها، كل هذا لشدة التعذيب؛ لأن الإنسان إذا طمع في الفرج وأنه سوف ينجو ويخلص يفرح، فإذا أعيد صارت انتكاسة جديدة، فهكذا يعذبون بضمائرهم وأبدانهم، وعذاب أهل النار مذكور مفصل في القرآن الكريم والسنة النبوية‏.‏ تأمل الان لو أن إنسانًا كان في حجرة أو في سيارة اتقدت النيران فيها وليس له مهرب، الأبواب مغلقة ماذا يكون‏؟‏ في حسرة عظيمة لا يمكن أن يماثلها حسرة‏.‏ فهم - والعياذ بالله - هكذا في النار، النار عليهم مؤصدة ‏{‏فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ‏}‏ أي‏:‏ أن هذه النار مؤصدة، وعليها أعمدة ممدة أي ممدودة على جميع النواحي والزوايا حتى لا يتمكن أحد من فتحها أو الخروج منها‏.‏ حكى الله سبحانه وتعالى ذلك علينا وبينه لنا في هذه السورة لا لمجرد أن نتلوه بألسنتنا، أو نعرف معناه بأفهامنا، لكن المراد أن نحذر من هذه الأوصاف الذميمة‏:‏ عيب الناس بالقول، وعيب الناس بالفعل، والحرص على المال حتى كأن الإنسان إنما خلق للمال ليخلد له، أو يخلد المال له، ونعلم أن من كانت هذه حاله فإن جزاءه هذه النار التي هي كما وصفها الله، الحطمة، تطلع على الأفئدة، مؤصدة، في عمد ممدة‏.‏ نسأل الله تعالى أن يجيرنا منها، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل والاستقامة على دينه‏.‏

 تفسير سورة الفيل

{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ‏}‏‏.‏

البسملة تقدم الكلام عليها‏.‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ‏}‏ يخاطب الله تعالى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أو يخاطب كل من يصح توجيه الخطاب إليه، فعلى الأول يكون خطاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم خطاب له وللأمة؛ لأن أمته تابعة له، وعلى الثاني يكون الخطاب عام له ولأمته، ابتداءً، وعلى كلٍّ فإن الله تعالى يقرر ما فعل سبحانه وتعالى بأصحاب الفيل، وأصحاب الفيل هم أهل اليمن الذين جاؤوا لهدم الكعبة بفيل عظيم أرسله إليهم ملك الحبشة، وسبب ذلك أن ملك اليمن أراد أن يصد الناس عن الحج إلى الكعبة، بيت الله عز وجل فبنى بيتًا يشبه الكعبة، ودعى الناس إلى حجه ليصدهم عن حج بيت الله فغضب لذلك العرب، وذهب رجل منهم إلى هذا البيت الذي جعله ملك اليمن بدلًا عن الكعبة وتغوَّط فيه، ولطخ جدرانه بالقذر، فغضب ملك اليمن غضبًا شديدًا، وأخبر ملك الحبشة بذلك فأرسل إليه هذا الفيل العظيم قيل‏:‏ وكان معه ستة فيلة لتساعده فجاء ملك اليمن بجنوده ليهدم الكعبة على زعمه، ولكن الله سبحانه حافظ بيته، فلما وصلوا إلى مكان يسمى المغمَّس وقف الفيل وحرن، وأبى أن يتجه إلى الكعبة فزجره سايسه ولكنه أبى، فإذا وجهوه إلى اليمن انطلق يهرول، وإن وجهوه إلى مكة وقف، وهذه آية من آيات الله عز وجل، ثم بقوا حتى أرسل الله عليهم طيرًا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل ‏{‏أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ‏}‏ قال العلماء‏:‏ ‏{‏طَيْرًا أَبَابِيلَ‏}‏ يعني‏:‏ جماعات متفرقة، كل طير في منقاره حجر صلب ‏{‏مِن سِجِّيلٍ‏}‏ وهو الطين المشوي؛ لأنه يكون أصلب، وهذا الحجر ليس كبيرًا، بل هو صغير يضرب الواحد من هؤلاء مع رأسه ويخرج من دبره - والعياذ بالله - ‏{‏فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ‏}‏ أي‏:‏ كزرع أكلته الدواب ووطئته بأقدامها حتى تفتت‏.‏ هذا مجمل هذه السورة العظيمة التي بين الله سبحانه وتعالى فيها ما فعل بأصحاب الفيل وأن كيدهم صار في نحورهم، وهكذا كل من أراد الحق بسوء فإن الله تعالى يجعل كيده في نحره، وإنما حمى الله عز وجل الكعبة عن هذا الفيل مع أنه في آخر الزمان سوف يُسلط عليها رجل من الحبشة يهدمها حجرًا حجرًا حتى تتساوى بالأرض لأن قصة أصحاب الفيل مقدمة لبعثة الرسول محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم التي يكون فيها تعظيم البيت‏.‏ أما في آخر الزمان فإن أهل البيت إذا أهانوه وأرادوا فيه بإلحاد بظلم، ولم يعرفوا قدره حينئذ يسلط الله عليهم من يهدمه حتى لا يبقى على وجه الأرض، ولهذا يجب على أهل مكة خاصة أن يحترزوا من المعاصي والذنوب والكبائر، لئلا يُهينوا الكعبة فيذلهم الله عز وجل‏.‏ نسأل الله تعالى أن يحمي ديننا وبيته الحرام من كيد كل كائد، إنه على كل شيء قدير‏.‏

 تفسير سورة قريش

{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ‏}‏‏.‏

البسملة تقدم الكلام عليها‏.‏ هذه السورة لها صلة بالسورة التي قبلها، إذ أن السورة التي قبلها فيها بيان منة الله عز وجل على أهل مكة بما فعل بأصحاب الفيل الذين قصدوا مكة لهدم الكعبة، فبين الله في هذه السورة نعمة أخرى كبيرة على أهل مكة، ‏(‏على قريش‏)‏ وهو إلا فهم مرتين في السنة، مرة في الصيف ومرة في الشتاء، ‏{‏لإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ‏}‏ والإلـف بمعنى الجمع والضم، ويراد به التجارة التي كانوا يقومون بها مرة في الشتاء، ومرة في الصيف، أما في الشتاء فيتجهون نحو اليمن للمحصولات الزراعية فيه، ولأن الجو مناسب، وأما في الصيف فيتجهون إلى الشام لأن غالب تجارة الفواكه وغيرها تكون في هذا الوقت في الصيف مع مناسبة الجو البارد، فهي نعمة من الله سبحانه وتعالى على قريش في هاتين الرحلتين؛ لأنه يحصل منها فوائد كثيرة ومكاسب كبيرة من هذه التجارة، أمرهم الله أن يعبدوا رب هذا البيت قال‏:‏ ‏{‏فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ‏}‏ شكرًا له على هذه النعمة، والفاء هذه إما أن تكون فاء السببية، أي فبسبب هاتين الرحلتين ليعبدوا رب هذا البيت، أو أن تكون فاء التفريع، وأيًّا كان فهي مبنية على ما سبق، أي فبهذه النعم العظيمة يجب عليهم أن يعبدوا الله، والعبادة هي التذلل لله عز وجل محبة وتعظيمًا‏.‏ أن يتعبد الإنسان لله يتذلل له بالسمع والطاعة، فإذا بلغه عن الله ورسوله أمر قال‏:‏ سمعنا وأطعنا، وإذا بلغه خبر قال‏:‏ سمعنا وآمنا، على وجه المحبة والتعظيم، فبالمحبة يقوم الإنسان بفعل الأوامر، وبالتعظيم يترك النواهي خوفًا من هذا العظيم عز وجل، هذا معنى من معاني العبادة، وتطلق العبادة على نفس المتعبد به، وقد حدّها شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - بهذا المعنى فقال‏:‏ إن العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال، والأعمال الظاهرة، والباطنة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ‏}‏ يعني به الكعبة المعظمة، وقد أضافها الله تعالى إلى نفسه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 26‏]‏‏.‏ وهنا أضاف ربوبيته إليه قال‏:‏ ‏{‏رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ‏}‏ وإضافة الربوبية إليه على سبيل التشريف والتعظيم ‏{‏طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ‏}‏ أضاف الله البيت إليه تشريفًا وتعظيمًا، إذًا خصص البيت بالربوبية مرة، وأضافه إلى نفسة مرة أخرى تشريفًا وتعظيمًا، وفي آية ثانية قال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا‏}‏ وبعدها قال‏:‏ ‏{‏وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ‏}‏ احتراز من أن يتوهم واهم بأنه رب البلدة وحدها فقال‏:‏ ‏{‏وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ‏}‏، ولكل مقام صيغة مناسبة، ففي قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 91‏]‏‏.‏ مناسبة بيان عموم ملكه، لئلا يدعي المشركون أنه رب للبلدة فقط، أما هنا فالمقام مقام تعظيم للبيت فناسب ذكره وحده قوله‏:‏ ‏{‏الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ‏}‏ ‏{‏الَّذِي‏}‏ هذه صفة للرب، إذًا فمحلها النصب، ولهذا يحسن أن تقف فتقول ‏{‏فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ‏}‏ ثم تقول‏:‏ ‏{‏الَّذِي أَطْعَمَهُم‏}‏ لأنك لو وصلت فقلت‏:‏ ‏"‏رب هذا البيت الذي أطعمهم‏"‏ لظن السامع أن ‏"‏الذي‏"‏ صفة للبيت، وهذا بعيد من المعنى ولا يستقيم به المعنى‏.‏ ‏{‏الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ‏}‏ بين الله نعمته عليهم، النعمة الظاهرة والباطنة، فإطعامهم من الجوع وقاية من الهلاك في أمر باطن، وهو الطعام الذي يأكلونه، ‏{‏وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ‏}‏ وقاية من الخوف في الأمر الظاهر؛ لأن الخوف ظاهر، إذا كانت البلاد محوطة بالعدو، وخاف أهلها وامتنعوا عن الخروج، وبقوا في ملاجئهم، فذكرهم الله بهذه النعمة، ‏{‏وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ‏}‏ آمن مكان في الأرض هو مكة، ولذلك لا يُقطع شجرها، ولا يُحش حشيشها، ولا تُلتقط ساقطتها، ولا يصاد صيدها، ولا يسفك فيها دم، وهذه الخصائص لا توجد في البلاد الأخرى حتى المدينة، محرمة ولها حرم، لكن حرمها دون حرم مكة بكثير، حرم مكة لا يمكن أن يأتيه أحد من المسلمين لم يأتها ولا مرة إلا محرمًا، والمدينة ليست كذلك، حرم مكة يحرم حشيشه وشجره مطلقًا، وأما حرم المدينة فرخص في بعض شجره للحرث ونحوه‏.‏ صيد مكة حرام وفيه الجزاء، وصيد المدينة ليس فيه الجزاء، فأعظم مكان آمن هو مكة، حتى الأشجار آمنة فيه، وحتى الصيود آمنة فيه، ولولا أن الله تعالى يسر على عباده لكان حتى البهائم التي ليست صيودًا تحرم، لكن الله تعالى رحم العباد وأذن لهم أن يذبحوا وينحروا في هذا المكان‏.‏ وهذه النعمة ذكرهم الله بها في قوله‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 67‏]‏‏.‏ يعني أفلا يشكرون الله على هذا‏؟‏‏!‏ فهذه السورة كلها تذكير لقريش بما أنعم الله عليهم في هذا البيت العظيم، وفي الأمن من الخوف، وفي الإطعام من الجوع‏.‏ فإذا قال قائل‏:‏ ما واجب قريش نحو هذه النعمة‏؟‏ وكذلك ما واجب من حلّ في مكة الان من قريش أو غيرهم‏؟‏ قلنا‏:‏ الواجب الشكر لله تعالى بالقيام بطاعته، بامتثال أمره واجتناب نهيه‏.‏ ولهذا إذا كثرت المعاصي في الحرم فالخطر على أهله أكثر من الخطر على غيرهم، لأن المعصية في مكان فاضل أعظم من المعصية في مكان مفضول، ولهذا قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 25‏]‏‏.‏ فتوعد الله تعالى من أراد فيه أي من هم به فيه بإلحاد فضلًا عمن ألحد‏.‏ والواجب على المرء أن يذكر نعمة الله عليه في كل مكان، لا في مكة فحسب، فبلادنا - ولله الحمد - اليوم من آمن بلاد العالم، وهي من أشد بلاد العالم رغدًا وعيشًا‏.‏ أطعمنا الله تعالى من الجوع، وآمننا من الخوف، فعلينا أن نشكر هذه النعمة، وأن نتعاون على البر والتقوى، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى الدعوة إلى الله على بصيرة وتأنٍ وتثبت، وأن نكون إخوة متآلفين، والواجب علينا ولاسيما على طلبة العلم إذا اختلفوا فيما بينهم أن يجلسوا للتشاور، وللمناقشة الهادئة التي يقصد منها الوصول إلى الحق، ومتى تبين الحق للإنسان وجب عليه اتباعه، ولا يجوز أن ينتصر لرأيه؛ لأنه ليس مشرعًا معصومًا حتى يقول إن رأيه هو الصواب، وأن ما عداه هو الخطأ‏.‏ الواجب على الإنسان المؤمن أن يكون كما أراد الله منه، ‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 36‏]‏‏.‏ أما كون الإنسان ينتصر لرأيه ويصر على ما هو عليه، ولو تبين له أنه باطل فهذا خطأ، وهذا من دأب المشركين الذين أبوا أن يتبعوا الرسول وقالوا‏:‏ ‏{‏إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 22‏]‏‏.‏ نسأل الله أن يديم علينا نعمة الإسلام، والأمن في الأوطان، وأن يجعلنا إخوة متآلفين على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إنه على كل شيء قدير‏.‏

تفسير سورة الماعون

{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ‏}‏‏.‏

البسملة تقدم الكلام عليها‏.‏ يقول الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ‏}‏ ‏{‏أَرَأَيْتَ‏}‏ الخطاب هل هو للرسول صلى الله عليه وسلم لأنه الذي أنزل عليه القرآن‏؟‏ أو هو عام لكل من يتوجه إليه الخطاب‏؟‏ العموم أولى فنقول‏:‏ ‏{‏أَرَأَيْتَ الَّذِي‏}‏ عام لكل من يتوجه إليه الخطاب، ‏{‏أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ‏}‏ أي بالجزاء، وهؤلاء هم الذين ينكرون البعث ويقولون‏:‏ ‏{‏أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 16، 17‏]‏‏.‏ ويقول القائل منهم‏:‏ ‏{‏مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 78‏]‏‏.‏ هؤلاء يكذبون بيوم الدين أي‏:‏ بالجزاء‏.‏ ‏{‏فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ‏}‏ فجمع بين أمرين‏:‏ الأمر الأول‏:‏ عدم الرحمة بالأيتام الذين هم محل الرحمة؛ لأن الأيتام هم الذين مات آباؤهم قبل أن يبلغوا، وهم محل الشفقة والرحمة؛ لأنهم فاقدون لابائهم فقلوبهم منكسرة يحتاجون إلى جابر‏.‏ ولهذا وردت النصوص بفضل الإحسان إلى الأيتام‏.‏ لكن هذا - والعياذ بالله - ‏{‏يَدُعُّ الْيَتِيمَ‏}‏ أي‏:‏ يدفعه بعنف، لأن الدع هو الدفع بعنف كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 13‏]‏‏.‏ أي‏:‏ دفعًا شديدًا، فتجد اليتيم إذا جاء إليه يستجديه شيئًا، أو يكلمه في شيء يحتقره ويدفعه بشدة فلا يرحمه‏.‏ الأمر الثاني‏:‏ لا يحثون على رحمة الغير ‏{‏وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ‏}‏ فالمسكين الفقير المحتاج إلى الطعام لا يحض هذا الرجل على إطعامه؛ لأن قلبه حجر قاسٍ، فقلوبهم كالحجارة أو أشد قسوة‏.‏ إذًا ليس فيه رحمة لا للأيتام ولا للمساكين، فهو قاسي القلب‏.‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ‏}‏ ويل‏:‏ هذه كلمة وعيد وهي تتكرر في القرآن كثيرًا، والمعنى الوعيد الشديد على هؤلاء، ‏{‏الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ‏}‏ هؤلاء مصلون يصلون مع الناس أو أفرادًا لكنهم ‏{‏عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ‏}‏ أي‏:‏ غافلون عنها، لا يقيمونها على ما ينبغي، يؤخرونها عن الوقت الفاضل، لا يقيمون ركوعها، ولا سجودها، ولا قيامها، ولا قعودها، لا يقرأون ما يجب فيها من قراءة سواء كانت قرآنًا أو ذكرًا، إذا دخل في صلاته هو غافل، قلبه يتجول يمينًا وشمالًا، فهو ساهٍ عن صلاته، وهذا مذموم، الذي يسهو عن الصلاة ويغفل عنها ويتهاون بها لا شك أنه مذموم‏.‏ أما الساهي في صلاته فهذا لا يُلام، والفرق بينهما أن الساهي في الصلاة معناه أنه نسي شيئًا، نسي عدد الركعات، نسي شيئًا من الواجبات وما أشبه ذلك‏.‏ ولهذا وقع السهو من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهو أشد الناس إقبالًا على صلاته بل إنه قال - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏:‏ ‏(‏جعلت قرة عيني في الصلاة‏)‏، ومع ذلك سهى في صلاته لأن السهو في الشيء معناه أنه نسي شيئًا على وجه لا يلام عليه‏.‏ أما الساهي عن صلاته فهو متعمد للتهاون في صلاته، ومن السهو عن الصلاة أولئك القوم الذين يدعون للصلاة مع الجماعة، فإنهم لا شك عن صلاتهم ساهون فيدخلون في هذا الوعيد‏.‏ ‏{‏فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ‏}‏ أيضًا إذا فعلوا الطاعة فإنما يقصدون بها التزلف إلى الناس، وأن يكون لهم قيمة في المجتمع، ليس قصدهم التقرب إلى الله عز وجل، فهذا المرائي يتصدق من أجل أن يقول الناس ما أكرمه، هذا المصلي يحسن صلاته من أجل أن يقول الناس ما أحسن صلاته وما أشبه ذلك‏.‏ هؤلاء يراءون، فأصل العبادة لله، لكن يريدون مع ذلك أن يحمدهم الناس عليها، ويتقربون إلى الناس بتقربهم إلى الله، هؤلاء هم المراءون‏.‏ أما من يصلي لأجل الناس بمعنى أنه يصلي بين يدي الملك مثلًا أو غيره يخضع له ركوعًا، أو سجودًا فهذا مشرك كافر قد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار‏.‏ لكن هذا يصلي لله مع مراعاة أن يحمده الناس على عبادته، على أنه عابد لله عز وجل‏.‏ وهذا يقع كثيرًا في المنافقين‏.‏ كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 142‏]‏‏.‏ انظر إلى هذا الوصف إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى، إذًا هم عن صلاتهم ساهون‏.‏ يراءون الناس‏.‏ وهنا يقول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ‏}‏ فهل الذين يسمّعون مثلهم‏؟‏ يعني إنسان يقرأ قرآنًا ويجهر بالقراءة ويحسن القراءة، ويحسن الأداء والصوت من أجل أن يقال ما أقرأه‏.‏ هل يكون مثل الذي يرائي‏؟‏ الجواب‏:‏ نعم كما جاء في الحديث، ‏(‏من سمَّع سمَّع الله به، ومن راءى راءى الله به‏)‏، المعنى من سمّع فضحه الله وبين للناس أن الرجل ليس مخلصًا، ولكنه يريد أن يسمعه الناس‏:‏ فيمدحوه على عبادته، ومن راءى كذلك راءى الله به، فالإنسان الذي يرائي الناس، أو يسمّع الناس سوف يفضحه الله، وسوف يتبين أمره إن عاجلًا أم آجلًا‏.‏ ‏{‏وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ‏}‏ أي‏:‏ يمنعون ما يجب بذله من المواعين وهي الأواني، يعني يأتي الإنسان إليهم يستعير آنية‏.‏ يقول‏:‏ أنا محتاج إلى دلو، أو محتاج إلى إناء أشرب به، أو محتاج إلى مصباح كهرباء وما أشبه ذلك، فيمنع‏.‏ فهذا أيضًا مذموم‏.‏ ومنع الماعون ينقسم إلى قسمين‏:‏ القسم الأول‏:‏ قسم يأثم به الإنسان‏.‏ القسم الثاني‏:‏ قسم لا يأثم به، لكن يفوته الخير‏.‏ فما وجب بذله فإن الإنسان يأثم بمنعه، وما لم يجب بذله فإن الإنسان لا يأثم بمنعه لكن يفوته الخير‏.‏ مثال ذلك‏:‏ إنسان جاءه رجل مضطر يقول‏:‏ أعطني ماءً أشربه، فإن لم أشرب مت، فبذل الإناء له واجب يأثم بتركه الإنسان، حتى إن بعض العلماء يقول‏:‏ لو مات هذا الإنسان فإنه يضمنه بالدية، لأنه هو سبب موته ويجب عليه بذل ما طلبه‏.‏ فيجب على المرء أن ينظر في نفسه هل هو ممن اتصف بهذه الصفات أو لا‏؟‏ إن كان ممن اتصف بهذه الصفات قد أضاع الصلاة وسها عنها، ومنع الخير عن الغير فليتب وليرجع إلى الله، وإلا فليبشر بالويل - والعياذ بالله - وإن كان قد تنزه عن ذلك فليبشر بالخير، والقرآن الكريم ليس المقصود منه أن يتلوه الإنسان، ليتعبد لله تعالى بتلاوته فقط، المقصود أن يتأدب به ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ ‏"‏إن النبي - صلى الله عليه وسلّم - كان خلقه القرآن‏"‏‏.‏ خُلقه يعني أخلاقه التي يتخلق بها يأخذها من القرآن‏.‏ وفقنا الله لما فيه الخير والصلاح في الدنيا والاخرة‏.‏ إنه على كل شيء قدير‏.‏

 تفسير سورة الكوثر

{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ‏}‏‏.‏

البسملة تقدم الكلام عليها‏.‏ هذه السورة قيل إنها مكية، وقيل‏:‏ إنها مدنية‏.‏ والمكي هو الذي نزل قبل هجرة النبي - صلى الله عليه وسلّم - إلى المدينة سواء نزل في مكة، أو في المدينة، أو في الطريق في السفر، فكل ما نزل بعد الهجرة فهو مدني، وما نزل قبلها فهو مكي، هذا هو القول الراجح من أقوال العلماء، يقول الله عز وجل مخاطبًا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ‏}‏ الكوثر‏:‏ في اللغة العربية هو الخير الكثير‏.‏ وهكذا كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أعطاه الله تعالى خيرًا كثيرًا في الدنيا والاخرة‏.‏ فمن ذلك النهر العظيم الذي في الجنة والذي يصبّ منه ميزابان على حوضه المورود - صلى الله عليه وسلّم - ماؤه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى مذاقًا من العسل، ‏(‏وأطيب رائحة من المسك‏)‏، وهذا الحوض في القيامة في عرصات القيامة يرده المؤمنون من أمة النبي - صلى الله عليه وسلّم ـ‏.‏ وآنيته كنجوم السماء كثرة وحسنًا، فمن كان واردًا على شريعته في الدنيا كان واردًا على حوضه في الاخرة، ومن لم يكن واردًا على شريعته فإنه محروم منه في الاخرة‏.‏ ومن الخيرات الكثيرة التي أعطيها النبي - صلى الله عليه وسلّم - في الدنيا ما ثبت في الصحيحين من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلّم - قال‏:‏ ‏(‏أعطيت خمسًا لم يُعطهن أحدًا من الأنبياء قبلي‏:‏ نُصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجلًا من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأعطيت الشفاعة، وأحلت لي المغانم، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبُعثت إلى الناس عامة‏)‏‏.‏ هذا من الخير الكثير، لأن بعثه إلى الناس عامة يستلزم أن يكون أكثر الأنبياء اتباعًا وهو كذلك فهو أكثرهم أتباعًا - صلى الله عليه وآله وسلم - ومن المعلوم أن الدال على الخير كفاعل الخير، والذي دل هذه الأمة العظيمة التي فاقت الأمم كثرة هو محمد - صلى الله عليه وسلّم - وعلى هذا فيكون للرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - من أجر كل واحد من أمته نصيب‏.‏ ومن يحصي الأمة إلا الله عز وجل، ومن الخير الذي أعطيه في الاخرة المقام المحمود، ومنه الشفاعة العظمى، فإن الناس في يوم القيامة يلحقهم من الكرب والغم ما لا يطيقون، فيطلبون الشفاعة، فيأتون إلى آدم، ثم نوح، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى - صلى الله عليه وآله وسلم - حتى تصل إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيقوم ويشفع، ويقضي الله تعالى بين العباد بشفاعته، وهذا مقام يحمده عليه الأولون والاخرون وداخل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 79‏]‏‏.‏ إذًا الكوثر يعني الخير الكثير، ومنه النهر الذي في الجنة، فالنهر الذي في الجنة هو الكوثر لا شك، ويسمى كوثرًا لكنه ليس هو فقط الذي أعطاه الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الخير، ولما ذكر منته عليه بهذا الخير الكثير قال‏:‏ ‏{‏فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ‏}‏ شكرًا لله على هذه النعمة العظيمة، أن تصلي وتنحر لله، والمراد بالصلاة هنا جميع الصلوات، وأول ما يدخل فيها الصلاة المقرونة بالنحر وهي صلاة عيد الأضحى لكن الآية شاملة عامة ‏{‏فَصَلِّ لِرَبِّكَ‏}‏ الصلوات المفروضة والنوافل‏.‏ صلوات العيد والجمعة ‏{‏وَانْحَرْ‏}‏ أي‏:‏ تقرب إليه بالنحر، والنحر يختص بالإبل، والذبح للبقر والغنم، لكنه ذكر النحر، لأن الإبل أنفع من غيرها بالنسبة للمساكين، ولهذا أهدى النبي - صلى الله عليه وسلّم - في حجة الوداع مائة بعير، ونحر منها ثلاثة وستين بيده، وأعطى علي بن أبي طالب رضي الله عنه الباقي فنحرها‏.‏ وتصدق بجميع أجزائها إلا بضعة واحدة من كل ناقة، فأخذها وجعلت في قدر، فطبخها فأكل من لحمها، وشرب من مرقها، وأمر بالصدقة حتى بجلالها وجلودها - صلى الله عليه وآله وسلم - والأمر في الآية أمر له وللأمة، فعلينا أن نخلص الصلاة لله، وأن نخلص النحر لله كما أُمر بذلك نبينا - صلى الله عليه وسلّم - ثم قال ‏{‏إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ‏}‏ هذا في مقابل إعطاء الكوثر قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ‏}‏ ‏{‏شَانِئَكَ‏}‏ أي مبغضك، والشنئان هو البغض، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 2‏]‏‏.‏ أي‏:‏ لا يحملنكم بغضهم أن تعتدوا‏.‏ ‏{‏وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 8‏]‏‏.‏ أي‏:‏ لا يحملنكم بغضهم على ترك العدل ‏{‏اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى‏}‏ فشانئك في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ شَانِئَكَ‏}‏ يعني مبغضك ‏{‏هُوَ الأَبْتَرُ‏}‏ الأبتر‏:‏ اسم تفضيل من بتر بمعنى قطع، يعني هو الأقطع‏.‏ المنقطع من كل خير، وذلك أن كفار قريش يقولون‏:‏ محمد أبتر، لا خير فيه ولا بركة فيه ولا في اتباعه، أبتر لما مات ابنه القاسم رضي الله عنه قالوا‏:‏ محمد أبتر، لا يولد له، ولو ولد له فهو مقطوع النسل، فبين الله عز وجل أن الأبتر هو مبغض الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - فهو الأبتر المقطوع عن كل خير‏.‏ الذي ليس فيه بركة، وحياته ندامة عليه، وإذا كان هذا في مبغضه فهو أيضًا في مبغض شرعه‏.‏ فمن أبغض شريعة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - أو أبغض شعيرة من شعائر الإسلام، أو أبغض أي طاعة مما يتعبد به الناس في دين الإسلام فإنه كافر، خارج عن الدين لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 9‏]‏‏.‏ ولا حبوط للعمل إلا بالكفر، فمن كره فرض الصلوات فهو كافر ولو صلى، ومن كره فرض الزكاة فهو كافر ولو صلى، لكن من استثقلها مع عدم الكراهة فهذا فيه خصلة من خصال النفاق لكنه لا يكفر‏.‏ وفرق بين من استثقل الشيء ومن كره الشيء‏.‏ إذًا هذه السورة تضمنت بيان نعمة الله على رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بإعطائه الخير الكثير، ثم الأمر بالإخلاص لله عز وجل في الصلوات والنحر، وكذلك في سائر العبادات، ثم بيان أن من أبغض الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - أو أبغض شيئًا من شريعته فإنه هو الأقطع الذي لا خير فيه ولا بركة فيه، نسأل الله العافية والسلامة‏.‏

 تفسير سورة الكافرون

{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ‏}‏‏.‏

البسملة تقدم الكلام عليها‏.‏ هذه السورة هي إحدى سورتي الإخلاص، لأن سورتي الإخلاص ‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ‏}‏ و‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ وكان النبي - صلى الله عليه وسلّم - يقرأ بهما في سُنة الفجر وفي سنة المغرب، وفي ركعتي الطواف لما تضمنتاه من الإخلاص لله عز وجل، والثناء عليه بالصفات الكاملة في سورة ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏‏.‏ ‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ‏}‏ يناديهم يعلن لهم بالنداء ‏{‏يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ‏}‏ وهذا يشمل كل كافر سواء كان من المشركين، أو من اليهود، أو من النصارى، أو من الشيوعيين أو من غيرهم‏.‏ كل كافر يجب أن تناديه بقلبك أو بلسانك إن كان حاضرًا لتتبرأ منه ومن عبادته ‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ‏}‏ كُررت الجمل على مرتين مرتين ‏{‏لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا أعبد الذين تعبدونهم، وهم الأصنام ‏{‏وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ‏}‏ وهو الله، و‏"‏ما‏"‏ هنا في قوله‏:‏ ‏{‏مَا أَعْبُدُ‏}‏ بمعنى ‏"‏من‏"‏ لأن اسم الموصول إذا عاد إلى الله فإنه يأتي بلفظ ‏"‏من‏"‏ ‏{‏لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ‏}‏ يعني‏:‏ أنا لا أعبد أصنامكم وأنتم لا تعبدون الله‏.‏ ‏{‏وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ‏}‏ قد يظن الظان أن هذه مكررة للتوكيد، وليس كذلك لأن الصيغة مختلفة ‏{‏لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ‏}‏ فعل‏.‏ ‏{‏وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ‏}‏ ‏"‏عابد‏"‏ و‏"‏عابدون‏"‏ اسم، والتوكيد لابد أن تكون الجملة الثانية كالأولى‏.‏ إذًا القول بأنه كرر للتوكيد ضعيف، إذًا لماذا هذا التكرار‏؟‏ قال بعض العلماء‏:‏ ‏{‏لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ‏}‏ أي‏:‏ الان ‏{‏وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ‏}‏ في المستقبل، فصار ‏{‏لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ‏}‏ أي‏:‏ في الحال، ‏{‏وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ‏}‏ يعني في المستقبل؛ لأن الفعل المضارع يدل على الحال، واسم الفاعل يدل على الاستقبال‏.‏ بدليل أنه عمل، واسم الفاعل لا يعمل إلا إذا كان للاستقبال، ‏{‏لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ‏}‏ الان ‏{‏وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ‏}‏ يعني الان‏.‏ ‏{‏وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ‏}‏ يعني في المستقبل ‏{‏وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ‏}‏ يعني في المستقبل‏.‏ لكن أورد على هذا القول إيراد كيف قال‏:‏ ‏{‏وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ‏}‏ مع أنهم قد يؤمنون فيعبدون الله‏؟‏‏!‏ وعلى هذا فيكون في هذا القول نوع من الضعف‏.‏ وأجابوا عن ذلك بأن قوله‏:‏ ‏{‏وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ‏}‏ يخاطب المشركين الذين عَلِم الله تعالى أنهم لن يؤمنوا‏.‏ فيكون الخطاب ليس عامًّا، وهذا مما يضعف القول بعض الشيء‏.‏ فعندنا الان قولان‏:‏ الأول‏:‏ إنها توكيد‏.‏ والثاني‏:‏ إنها في المستقبل‏.‏ القول الثالث‏:‏ ‏{‏لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا أعبد الأصنام التي تعبدونها‏.‏ ‏{‏وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ‏}‏ أي‏:‏ لا تعبدون الله‏.‏ ‏{‏وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ‏}‏ أي‏:‏ في العبادة يعني ليست عبادتي كعبادتكم، ولا عبادتكم كعبادتي، فيكون هذا نفي للفعل لا للمفعول به، يعني ليس نفيًا للمعبود‏.‏ لكنه نفي للعبادة أي لا أعبد كعبادتكم، ولا تعبدون أنتم كعبادتي، لأن عبادتي خالصة لله، وعبادتكم عبادة شرك‏.‏ القول الرابع‏:‏ واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أن قوله ‏{‏لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ‏}‏ هذا الفعل‏.‏ فوافق القول الأول في هذه الجملة‏.‏ ‏{‏وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ‏}‏ أي‏:‏ في القبول، بمعنى ولن أقبل غير عبادتي، ولن أقبل عبادتكم، وأنتم كذلك لن تقبلوا‏.‏ فتكون الجملة الأولى عائدة على الفعل‏.‏ والجملة الثانية عائدة على القبول والرضا، يعني لا أعبده ولا أرضاه، وأنتم كذلك‏.‏ لا تعبدون الله ولا ترضون بعبادته‏.‏ وهذا القول إذا تأملته لا يرد عليه شيء من الهفوات السابقة، فيكون قولًا حسنًا جيدًا، ومن هنا نأخذ أن القرآن الكريم ليس فيه شيء مكرر لغير فائدة إطلاقًا، ليس فيه شيء مكرر إلا وله فائدة‏.‏ لأننا لو قلنا‏:‏ إن في القرآن شيئًا مكررًا بدون فائدة لكان في القرآن ما هو لغو، وهو منزه عن ذلك، وعلى هذا فالتكرار في سورة الرحمن ‏{‏فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ‏}‏ وفي سورة المرسلات ‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ‏}‏ تكرار لفائدة عظيمة، وهي أن كل آية مما بين هذه الآية المكررة، فإنها تشمل على نعم عظيمة، وآلاء جسيمة، ثم إن فيها من الفائدة اللفظية التنبيه للمخاطب حيث يكرر عليه ‏{‏فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ‏}‏ ويكرر عليه ‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ‏}‏‏.‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ‏}‏ ‏{‏لَكُمْ دِينُكُمْ‏}‏ الذي أنتم عليه وتدينون به‏.‏ ولي ديني، فأنا برىء من دينكم، وأنتم بريؤون من ديني‏.‏ قال بعض أهل العلم‏:‏ وهذه السورة نزلت قبل فرض الجهاد؛ لأنه بعد الجهاد لا يقر الكافر على دينه إلا بالجزية إن كانوا من أهل الكتاب‏.‏ وعلى القول الراجح أو من غيرهم‏.‏ ولكن الصحيح أنها لا تنافي الأمر بالجهاد حتى نقول إنها منسوخة، بل هي باقية ويجب أن نتبرأ من دين اليهود والنصارى والمشركين، في كل وقت وحين، ولهذا نقر اليهود والنصارى على دينهم بالجزية، ونحن نعبد الله، وهم يعبدون ما يعبدون، فهذه السورة فيها البراءة والتخلي من عبادة غير الله عز وجل، سواء في المعبود أو في نوع الفعل، وفيها الإخلاص لله عز وجل، وأن لا نعبد إلا الله وحده لا شريك له‏.‏ وإلى هنا ينتهي ما تيسر من الكلام على هذه السورة‏.‏

 تفسير سورة النصر

{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا‏}‏‏.‏

البسملة تقدم الكلام عليها‏.‏ ‏{‏إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ‏}‏ الخطاب للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ‏{‏نَصْرُ اللَّهِ‏}‏ النصر هو تسليط الله الإنسان على عدوه بحيث يتمكن منه ويخذله ويكبته، والنصر أعظم سرور يحصل للعبد في أعماله، لأن المنتصر يجد نشوة عظيمة، وفرحًا وطربًا، لكنه إذا كان بحق فهو خير، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلّم - أنه قال‏:‏ ‏(‏نصرت بالرعب مسيرة شهر‏)‏ أي أن عدوه مرعوب منه إذا كان بينه وبينه مسافة شهر، والرعب أشد شيء يفتك بالعدو، لأن من حصل في قلبه الرعب لا يمكن أن يثبت أبدًا، بل سيطير طيران الريح فقوله‏:‏ ‏{‏إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ‏}‏ أي نصر الله إياك على عدوك ‏{‏وَالْفَتْحُ‏}‏ معطوف على النصر، وعطفه على النصر مع أن الفتح من النصر تنويه بشأنه، وهو من باب عطف الخاص على العام، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا‏}‏ ‏[‏القدر‏:‏ 4‏]‏‏.‏ أي في ليلة القدر فجبريل من الملائكة وخصه لشرفه، و‏(‏ال‏)‏ في الفتح للعهد الذهني، أي‏:‏ الفتح المعهود المعروف في أذهانكم، وهو فتح مكة، وكان فتح مكة في رمضان من السنة الثامنة للهجرة، وسببه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما صالح قريش في الحديبية في السنة السادسة - الصلح المشهور - نقضت قريش العهد فغزاهم النبي - صلى الله عليه وسلّم - وخرج إليهم من المدينة بنحو عشرة آلاف مقاتل خرج مختفيًا وقال‏:‏ ‏"‏اللهم عمي أخبارنا عنهم‏"‏ فلم يفاجأهم إلا وهو محيط بهم ودخل مكة في العشرين من رمضان، من السنة الثامنة للهجرة، مظفرًا منصورًا مؤيدًا، حتى إنه في النهاية اجتمع إليه كفار قريش حول الكعبة فوقف على الباب وقريش تحته ينتظرون ما يفعل، فأخذ بعضادتي الباب وقال‏:‏ يا معشر قريش، ما تظنون أني فاعل بكم‏؟‏ وهو الذي كان قبل ثمان سنوات هاربًا منهم وكانوا الان في قبضته وتحت تصرفه، قال‏:‏ ما تظنون أني فاعل بكم‏؟‏ قالوا‏:‏ خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم، قال‏:‏ فإني أقول لكم كما قال يوسف لأخوته ‏{‏لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 92‏]‏‏.‏ اذهبوا فأنتم الطلقاء، فعفى عنهم - صلى الله عليه وآله وسلم - هذا الفتح سماه الله فتحًا مبينًا، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 1‏]‏‏.‏ أي بينًا عظيمًا واضحًا، ولما حصل عرف الناس جميعًا أن العاقبة لمحمد - صلى الله عليه وسلّم - وأن دور قريش واتباعه قد انقضى فصار الناس ‏{‏يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا‏}‏ أي جماعات بعد أن كانوا يدخلون فيه أفرادًا، ولا يدخل فيه الإنسان في بعض الأحوال إلا مختفيًا، صاروا يدخلون في دين الله أفواجًا، وصارت الوفود ترد على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في المدينة من كل جانب حتى سمي العام التاسع ‏(‏عام الوفود‏)‏ يقول الله عز وجل إذا رأيت هذه العلامة ‏{‏فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ‏}‏ كان المتوقع أن يكون الجواب فاشكر الله على هذه النعمة واحمد الله عليها ولكن ‏{‏فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ‏}‏ وهذا نظير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلاً فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 23، 24‏]‏‏.‏ كان المتوقع فاشكر ربك على هذا التنزيل وقم بحقه، ولكن قال‏:‏ ‏{‏فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ‏}‏ إيذانًا بأنه سوف ينال أذىً بواسطة إبلاغ هذا القرآن ونشره بين الأمة ‏{‏فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ‏}‏ عند التأمل تتبين الحكمة فالمعنى أنه إذا جاء نصر الله والفتح فقد قرب أجلك وما بقي عليك إلا التسبيح بحمد ربك والاستغفار ‏{‏فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ‏}‏ أي سبحه تسبيحًا مقرونًا بالحمد‏.‏ والتسبيح‏:‏ تنزيه الله تعالى عما لا يليق بجلاله‏.‏ والحمد‏:‏ هو الثناء عليه بالكمال مع المحبة والتعظيم‏.‏ اجمع بين التنزيه وبين الحمد ‏{‏وَاسْتَغْفِرْهُ‏}‏ يعني اسأله المغفرة‏.‏ فأمره الله تعالى بأمرين‏:‏ الأمر الأول‏:‏ التسبيح المقرون بالحمد‏.‏ والثاني‏:‏ الاستغفار‏.‏ والاستغفار هو طلب المغفرة‏.‏ والمغفرة ستر الله تعالى على عبده ذنوبه مع محوها والتجاوز عنها‏.‏ وهذا غاية ما يريد العبد، لأن العبد كثير الذنب يحتاج إلى مغفرة إن لم يتغمده الله برحمته هلك، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏:‏ ‏(‏لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله‏.‏ قالوا‏:‏ ولا أنت يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته‏)‏‏.‏ لأن عملك هذا لو أردت أن تجعله في مقابلة نعمة من النعم، نعمة واحدة لأحاطت به النعم، فكيف يكون عوضًا تدخل به الجنة‏؟‏ ولهذا قال بعض العارفين في نظم له‏:‏ إذا كان بشكري نعمة الله نعمة علي له في مثلها يجب الشكرفكيف بلوغ الشكر إلا بفضله وإن طالت الأيام واتصل العمر‏{‏إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا‏}‏ أي‏:‏ لم يزل عز وجل توابًا على عباده، فإذا استغفرته تاب عليك، هذا هو معنى السورة‏.‏ لكن السورة لها مغزى عظيم لا يتفطن له إلا الأذكياء، ولهذا لما سمع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن الناس انتقدوه في كونه يُدني عبدالله بن عباس - رضي الله عنهما - مع صغر سنه ولا يدني أمثاله من شباب المسلمين، وعمر - رضي الله عنه - من أعدل الخلفاء أراد أن يبين للناس أنه لم يحابِ ابن عباس في شيء، فجمع كبار المهاجرين والأنصار في يوم من الأيام ومعهم عبدالله بن عباس وقال لهم‏:‏ ما تقولون في هذه السورة ‏{‏إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ‏}‏ حتى ختم السورة ففسروها بحسب ما يظهر فقط، فقال بعضهم‏:‏ أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وقال بعضهم‏:‏ لا ندري، ولم يقل بعضهم شيئًا‏.‏ فقال‏:‏ ما تقول يا ابن عباس قال‏:‏ يا أمير المؤمنين هو أجل رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - أعلمه الله له‏:‏ ‏{‏إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ‏}‏ فتح مكة فذاك علامة أجلك، ‏{‏وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا‏}‏ فقال عمر‏:‏ ‏"‏والله ما أعلم منها إلا ما تعلم‏"‏‏.‏ فتبين بذلك فضل ابن عباس وتميزه، وأن عنده من الذكاء والمعرفة بمراد الله عز وجل‏.‏ لما نزلت هذه السورة جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - الذي هو أشد الناس عبادة لله وأتقاهم لله جعل يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده‏:‏ ‏(‏سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي‏)‏‏.‏ فنقول‏:‏ سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين‏.‏

 تفسير سورة المسد

{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ‏}‏‏.‏

البسملة تقدم الكلام عليها‏.‏ هذا القرآن فيه من الدلالات الكثيرة ما يدل دلالة واضحة على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - حق، ليس يدعو لملك ولا لجاه، ولا لرئاسة قومه، وأعمام الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - انقسموا في معاملته ومعاملة ربه عز وجل إلى ثلاثة أقسام‏:‏ قسم آمن به وجاهد معه، وأسلم لله رب العالمين‏.‏ وقسم ساند وساعد، لكنه باق على الكفر‏.‏ وقسم عاند وعارض، وهو كافر‏.‏ فأما الأول‏:‏ فالعباس بن عبدالمطلب، وحمزة بن عبدالمطلب‏.‏ والثاني‏:‏ أفضل من الأول؛ لأن الثاني من أفضل الشهداء عند الله عز وجل، ووصفه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بأنه أسد الله، وأسد رسوله، واستشهد رضي الله عنه في أحد في السنة الثانية من الهجرة‏.‏ أما الذي ساند وساعد مع بقائه على الكفر فهو أبو طالب، فأبو طالب قام مع النبي - صلى الله عليه وسلّم - خير قيام في الدفاع عنه ومساندته ولكنه - والعياذ بالله - قد سبقت له كلمة العذاب، لم يُسلم حتى في آخر حياته في آخر لحظة من الدنيا عرض عليه النبي - صلى الله عليه وسلّم - أن يسلم لكنه أبى بل ومات على قوله‏:‏ إنه على ملة عبدالمطلب، فشفع له النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حتى كان في ضحضاح من نار، وعليه نعلان يغلي منهما دماغه‏.‏ أما الثالث‏:‏ الذي عاند وعارض فهو أبو لهب‏.‏ أنزل الله فيه سورة كاملة تُتلى في الصلوات فرضها ونفلها، في السر والعلن، يُثاب المرء على تلاوتها، على كل حرف عشر حسنات‏.‏ يقول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ‏}‏ وهذا رد على أبي لهب حين جمعهم النبي - صلى الله عليه وسلّم - ليدعوهم إلى الله فبشر وأنذر، قال أبو لهب‏:‏ تبًّا لك ألهذا جمعتنا، قوله‏:‏ ‏"‏ألهذا جمعتنا‏"‏ إشارة للتحقير، يعني هذا أمر حقير ما يحتاج أن يُجمع له زعماء قريش وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 36‏]‏‏.‏ والمعنى تحقيره، فليس بشيء ولا يهتم به كما قالوا‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 31‏]‏‏.‏ فالحاصل أن أبا لهب قال‏:‏ تبًّا لك ألهذا جمعتنا، فرد الله عليه بهذه السورة‏:‏ ‏{‏تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ‏}‏ والتباب الخسار‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 37‏]‏‏.‏ أي‏:‏ خسار‏.‏ وبدأ بيديه قبل ذاته؛ لأن اليدين هما آلتا العمل والحركة، والأخذ والعطاء وما أشبه ذلك‏.‏ وهذا اللقب أبو لهب، لقب مناسب تمامًا لحاله ومآله، وجه المناسبة أن هذا الرجل سوف يكون في نار تلظى، تتلظى لهبًا عظيمًا مطابقة لحاله ومآله‏.‏ يقول الشاعر‏:‏ قل إن أبصرت عيناك ذا لقب إلا ومعناه إن فكرت في لقبه ولما أقبل سهيل بن عمرو في قصة غزوة الحديبية قال الرسول - صلى الله عليه وسلّم - ‏:‏ ‏(‏هذا سهيل بن عمرو، وما أراه إلا سهل لكم من أمركم‏)‏، لأن الاسم مطابق للفعل‏.‏ يقول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ‏}‏ ‏"‏ما‏"‏ هذه يحتمل أن تكون استفهامية والمعنى‏:‏ أي شيء أغنى عنه ماله وما كسب‏؟‏ والجواب‏:‏ لا شيء، ويحتمل أن تكون ‏(‏ما‏)‏ نافية‏.‏ أي ما أغنى عنه، أي لم يغنِ عنه ماله وما كسب شيئًا، وكلا المعنيين متلازمان، ومعناهما‏:‏ أن ماله وما كسب لم يغنِ عنه شيئًا، مع أن العادة أن المال ينفع، فالمال يفدي به الإنسان نفسه لو تسلط عليه عدو وقال‏:‏ أنا أعطيك كذا وكذا من المال وأطلقني، يطلقه، لكن قد يطلب مالًا كثيرًا أو قليلًا، ولو مرض انتفع بماله، ولو جاع انتفع بماله، فالمال ينفع، لكن النفع الذي لا ينجي صاحبه من النار، ليس بنفع‏.‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ‏}‏‏.‏ يعني من الله شيئًا قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَسَبَ‏}‏ قيل المعنى‏:‏ وما كسب من الولد‏.‏ كأنه قال‏:‏ ما أغنى عنه ماله وولده‏.‏ كقول نوح‏:‏ ‏{‏وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَارًا‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 21‏]‏‏.‏ فجعلوا قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَسَبَ‏}‏ يعني بذلك الولد‏.‏ وأيدوا هذا القول بقول النبي - صلى الله عليه وسلّم - ‏:‏ ‏(‏إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم‏)‏‏.‏ والصواب أن الآية أعم من هذا، وأن الآية تشمل الأولاد، وتشمل المال المكتسب الذي ليس في يده الان، وتشمل ما كسبه من شرف وجاه‏.‏ كل ما كسبه مما يزيده شرفًا وعزًّا فإنه لا يُغني عنه شيئًا ‏{‏مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ‏}‏‏.‏ ‏{‏سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ‏}‏ السين في قوله‏:‏ ‏{‏سَيَصْلَى‏}‏ للتنفيس المفيد للحقيقة والقرب‏.‏ يعني أن الله تعالى توعده بأنه سيصلى نارًا ذات لهب عن قريب؛ لأن متاع الدنيا والبقاء في الدنيا مهما طال فإن الاخرة قريبة، حتى الناس في البرزخ وإن مرت عليهم السنين الطوال فكأنها ساعة ‏{‏كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 35‏]‏‏.‏ وشيء مقدر بساعة من نهار فإنه قريب‏.‏ ‏{‏وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ‏}‏ يعني كذلك امرأته معه، وهي امـرأة من أشراف قريش لكن لم يغنِ عنها شرفها شيئًا لكونها شاركت زوجها في العداء والإثم، والبقاء على الكفر‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏حَمَّالَةَ الْحَطَبِ‏}‏ قُـرأت بالنصب والرفع، أما النصب فإنها تكون حالًا لامرأة، يعني وامرأته حال كونها حمالة الحطب‏.‏ أو تكون منصوبة على الذم لأن النعت المقطوع يجوز نصبه على الذم‏.‏ أي أذم حمالة الحطب‏.‏ وأما على قراءة الرفع فهي صفة لامرأة ‏{‏حَمَّالَةَ الْحَطَبِ‏}‏ ‏{‏حَمَّالَةَ‏}‏ صيغة مبالغة أي تحمله بكثرة، وذكروا أنها تحمل الحطب الذي فيه الشوك وتضعه في طريق النبي - صلى الله عليه وسلّم - من أجل أذى الرسول - صلى الله عليه وسلّم ـ‏.‏ ‏{‏فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ‏}‏ الجيد‏:‏ العنق، والحبل معروف، والمسد‏:‏ الليف‏.‏ يعني أنها متقلدة حبلًا من الليف تخرج به إلى الصحراء لتربط به الحطب الذي تأتي به لتضعه في طريق النبي - صلى الله عليه وسلّم - نعوذ بالله من ذلك، وهو إشارة إلى دنو نظرتها، وأنها أهانت نفسها، امرأة من قريش من أكابر قبائل قريش تخرج إلى الصحراء وتضع هذا الحبل في عنقها، وهو من الليف مع ما فيـه من المهانة، لكن من أجل أذية الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم ـ‏.‏ نسأل الله العافية‏.‏ وبهذا ينتهي الكلام بما يسر الله عز وجل على هذه السورة‏.‏

 تفسير سورة الإخلاص

{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏}‏‏.‏

البسملة سبق الكلام عليها‏.‏ ذكر في سبب نزول هذه السورة‏:‏ أن المشركين أو اليهود قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلّم - ‏:‏ صف لنا ربك‏؟‏ فأنزل الله هذه السورة‏.‏ ‏{‏قُلْ‏}‏ الخطاب للرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - وللأمة أيضًا و‏{‏هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ ‏{‏هُوَ‏}‏ ضمير الشأن عند المعربين‏.‏ ولفظ الجلالة ‏{‏اللهُ‏}‏ هو خبر المبتدأ و‏{‏أَحَدٌ‏}‏ خبر ثان‏.‏ ‏{‏اللَّهُ الصَّمَدُ‏}‏ جملة مستقلة‏.‏ ‏{‏اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ أي هو الله الذي تتحدثون عنه وتسألون عنه ‏{‏أَحَدٌ‏}‏ أي‏:‏ متوحد بجلاله وعظمته، ليس له مثيل، وليس له شريك، بل هو متفرد بالجلال والعظمة عز وجل‏.‏ ‏{‏اللَّهُ الصَّمَدُ‏}‏ جملة مستقلة، بين الله تعالى أنه ‏{‏الصَّمَدُ‏}‏ أجمع ما قيل في معناه‏:‏ أنه الكامل في صفاته، الذي افتقرت إليه جميع مخلوقاته‏.‏ فقد روي عن ابن عباس أن الصمد هو الكامل في علمه، الكامل في حلمه، الكامل في عزته، الكامل في قدرته، إلى آخر ما ذكر في الأثر‏.‏ وهذا يعني أنه مستغنٍ عن جميع المخلوقات لأنه كامل، وورد أيضًا في تفسيرها أن الصمد هو الذي تصمد إليه الخلائق في حوائجها، وهذا يعني أن جميع المخلوقات مفتقرة إليه، وعلى هذا فيكون المعنى الجامع للصمد هو‏:‏ الكامل في صفاته الذي افتقرت إليه جميع مخلوقاته‏.‏ ‏{‏لَمْ يَلِدْ‏}‏ لأنه جل وعلا لا مثيل له، والولد مشتق من والده وجزء منه كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في فاطمة‏:‏ ‏(‏إنها بَضْعَةٌ مني‏)‏، والله جل وعلا لا مثيل له، ثم إن الولد إنما يكون للحاجة إليه إما في المعونة على مكابدة الدنيا، وإما في الحاجة إلى بقاء النسل‏.‏ والله عز وجل مستغنٍ عن ذلك‏.‏ فلهذا لم يلد لأنه لا مثيل له؛ ولأنه مستغنٍ عن كل أحد عز وجل‏.‏ وقد أشار الله عز وجل إلى امتناع ولادته أيضًا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 101‏]‏‏.‏ فالولد يحتاج إلى صاحبة تلده، وكذلك هو خالق كل شيء، فإذا كان خالق كل شيء فكل شيء منفصل عنه بائن منه‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏لَمْ يَلِدْ‏}‏ رد على ثلاث طوائف منحرفة من بني آدم، وهم‏:‏ المشركون، واليهود، والنصارى، لأن المشركين جعلوا الملائكة الذين هم عبادالرحمن إناثًا، وقالوا‏:‏ إن الملائكة بنات الله‏.‏ واليهود قالوا‏:‏ عزير ابن الله‏.‏ والنصارى قالوا‏:‏ المسيح ابن الله‏.‏ فكذبهم الله بقوله‏:‏ ‏{‏لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ‏}‏ لأنه عز وجل هو الأول الذي ليس قبله شيء، فكيف يكون مولودًا‏؟‏‏!‏ ‏{‏وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏}‏ أي لم يكن له أحد مساويًا في جميع صفاته، فنفى الله سبحانه وتعالى عن نفسه أن يكون والدًا، أو مولودًا، أو له مثيل، وهذه السورة لها فضل عظيم‏.‏ قال النبي - صلى الله عليه وسلّم - ‏:‏ ‏(‏إنها تعدل ثلث القرآن‏)‏، لكنها تعدله ولا تقوم مقامه، فهي تعدل ثلث القرآن لكن لا تقوم مقام ثلث القرآن‏.‏ بدليل أن الإنسان لو كررها في الصلاة الفريضة ثلاث مرات لم تكفه عن الفاتحة، مع أنه إذا قرأها ثلاث مرات فكأنما قرأ القرآن كله، لكنها لا تجزىء عنه، ولا تستغرب أن يكون الشيء معادلًا للشيء ولا يجزىء عنه‏.‏ فها هو النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أخبر أن ‏(‏من قال‏:‏ لا إله إلا الله وحده لا شريك له‏.‏ له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، فكأنما أعتق أربعة أنفس من بني إسماعيل، أو من ولد إسماعيل‏)‏، ومع ذلك لو كان عليه رقبة كفارة، وقال هذا الذكر، لم يكفه عن الكفارة فلا يلزم من معادلة الشيء للشيء أن يكون قائمًا مقامه في الإجزاء‏.‏ هذه السورة كان الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - يقرأ بها في الركعة الثانية في سنة الفجر، وفي سنة المغرب، وفي ركعتي الطواف، وكذلك يقرأ بها في الوتر، لأنها مبنية على الإخلاص التام لله، ولهذا تسمى سورة الإخلاص‏.‏

 تفسير سورة الفلق

{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ‏}‏‏.‏

البسملة تقدم الكلام عليها‏.‏ ‏{‏قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ‏}‏ رب الفلق هو الله، والفلق‏:‏ الإصباح‏.‏ ويجوز أن يكون أعم من ذلك أن الفلق كل ما يطلقه الله تعالى من الإصباح، والنوى، والحب‏.‏ كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏فَالِقُ الإِصْبَاحِ‏}‏‏.‏

{‏مِن شَرِّ مَا خَلَقَ‏}‏ أي من شر جميع المخلوقات حتى من شر نفسه، لأن النفس أمارة بالسوء، فإذا قلت من شر ما خلق فأول ما يدخل فيه نفسك، كما جاء في خطبة الحاجة ‏(‏نعوذ بالله من شرور أنفسنا‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏مِن شَرِّ مَا خَلَقَ‏}‏ يشمل شياطين الإنس والجن والهوام وغير ذلك‏.‏ ‏{‏وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ‏}‏ الغاسق قيل‏:‏ إنه الليل‏.‏ وقيل‏:‏ إنه القمر، والصحيح إنه عام لهذا وهذا، أما كونه الليل، فلأن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 78‏]‏‏.‏ والليل تكثر فيه الهوام والوحوش، فلذلك استعاذ من شر الغاسق أي‏:‏ الليل‏.‏ وأما القمر فقد جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن النبي - صلى الله عليه وسلّم - أرى عائشة القمر‏.‏ وقال‏:‏ ‏"‏هذا هو الغاسق‏"‏، وإنما كان غاسقًا لأن سلطانه يكون في الليل‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ‏}‏ هو معطوف على ‏{‏مِن شَرِّ مَا خَلَقَ‏}‏ من باب عطف الخاص على العام، لأن الغاسق من مخلوقات الله عز وجل وقوله‏:‏ ‏{‏إِذَا وَقَبَ‏}‏ أي‏:‏ إذا دخل‏.‏ فالليل إذا دخل بظلامه غاسق، وكذلك القمر إذا أضاء بنوره فإنه غاسق، ولا يكون ذلك إلا بالليل‏.‏ ‏{‏وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ‏}‏ ‏{‏النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ‏}‏ هن الساحرات‏.‏ يعقدن الحبال وغيرها، وتنفث بقراءة مطلسمة فيها أسماء الشياطين على كل عقدة تعقد ثم تنفث، تعقد ثم تنفث، تعقد ثم تنفث، وهي بنفسها الخبيثة تريد شخصًا معينًا، فيؤثر هذا السحر بالنسبة للمسحور‏.‏ وذكر الله النفاثات دون النفاثين؛ لأن الغالب أن الذي يستعمل هذا النوع من السحر هن النساء، فلهذا قال‏:‏ ‏{‏النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ‏}‏ ويحتمل أن يقال‏:‏ إن النفاثات يعني الأنفس النفاثات فيشمل الرجال والنساء‏.‏ ‏{‏وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ‏}‏ الحاسد هو الذي يكره نعمة الله على غيره، فتجده يضيق ذرعًا إذا أنعم الله على هذا الإنسان بمال، أو جاه، أو علم أو غير ذلك‏.‏ فيحسده ولكن الحسّاد نوعان‏:‏ نوع يحسد ويكره في قلبه نعمة الله على غيره، لكن لا يتعرض للمحسود بشيء، تجده مهمومًا مغمومًا من نعم الله على غيره، لكنه لا يعتدي على صاحبه‏.‏ والشر والبلاء إنما هو بالحاسد إذا حسد‏.‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏إِذَا حَسَدَ‏}‏‏.‏ ومن حسد الحاسد العين التي تصيب الُمعان يكون هذا الرجل عنده كراهة لنعم الله على الغير فإذا أحس بنفسه أن الله أنعم على فلان بنعمة خرج من نفسه الخبيثة ‏(‏معنى‏)‏ لا نستطيع أن نصفه لأنه مجهول، فيصيب بالعين، ومن تسلط عليه أحيانًا يموت، وأحيانًا يمرض، وأحيانًا يُجن، حتى الحاسد يتسلط على الحديد فيوقف اشتغاله، وربما يصيب السيارة بالعين وتنكسر أو تتعطل، وربما يصيب رفَّاعة الماء، أو حراثة الأرض، فالعين حق تصيب بإذن الله عز وجل، وذكر الله عز وجل الغاسق إذا وقب، والنفاثات في العقد، والحاسد إذا حسد؛ لأن البلاء كله في هذه الأحوال الثلاثة يكون خفيًّا‏.‏ الليل ستر وغشاء‏.‏ ‏{‏وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 1‏]‏‏.‏ يكمن به الشر ولا يعلم به‏.‏ ‏{‏النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ‏}‏ أيضًا السحر خفي لا يعلم‏.‏ ‏{‏حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ‏}‏ العائن أيضًا خفي تأتي العين من شخص تظن أنه من أحب الناس إليك وأنت من أحب الناس إليه ومع ذلك يصيبك بالعين‏.‏ لهذا السبب خص الله هذه الأمور الثلاثة‏.‏ الغاسق إذا وقب، والنفاثات في العقد، والحاسد إذا حسد، وإلا فهي داخلة في قوله‏:‏ ‏{‏مِن شَرِّ مَا خَلَقَ‏}‏‏.‏ فإذا قال قائل‏:‏ ما هو الطريق للتخلص من هذه الشرور الثلاثة‏؟‏ قلنا‏:‏ الطريق للتخلص أن يعلق الإنسان قلبه بربه، ويفوض أمره إليه، ويحقق التوكل على الله، ويستعمل الأوراد الشرعية التي بها يحصن نفسه ويحفظها من شر هؤلاء، وما كثر الأمر في الناس في الاونة الأخير من السحرة والحساد وما أشبه ذلك إلا من أجل غفلتهم عن الله، وضعف توكلهم على الله عز وجل، وقلة استعمالهم للأوراد الشرعية التي بها يتحصنون، وإلا فنحن نعلم أن الأوراد الشرعية حصن منيع، أشد من سد يأجوج ومأجوج‏.‏ لكن مع الأسف أن كثيًرا من الناس لا يعرف عن هذه الأوراد شيئًا، ومن عرف فقد يغفل كثيرًا، ومن قرأها فقلبه غير حاضر، وكل هذا نقص، ولو أن الناس استعملوا الأوراد على ما جاءت به الشريعة لسلموا من شرور كثيرة، نسأل الله العافية والسلامة‏.‏

 تفسير سورة الناس

{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ‏}‏‏.‏

البسملة تقدم الكلام عليها‏.‏ ‏{‏قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس‏}‏ وهو الله عز وجل، وهو رب الناس وغيرهم، رب الناس، ورب الملائكة، ورب الجن، ورب السموات، ورب الأرض، ورب الشمس، ورب القمر، ورب كل شيء، لكن للمناسبة خص الناس‏.‏ ‏{‏مَلِكِ النَّاسِ‏}‏ أي الملك الذي له السلطة العليا في الناس، والتصرف الكامل هو الله عز وجل‏.‏ ‏{‏إِلَهِ النَّاسِ‏}‏ أي مألوههم ومعبودهم، فالمعبود حقًّا الذي تألهه القلوب وتحبه وتعظمه هو الله عز وجل‏.‏ ‏{‏مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ‏}‏ ‏{‏الْوَسْوَاسِ‏}‏ قال العلماء‏:‏ إنها مصدر يراد به اسم الفاعل أي‏:‏ الموسوس‏.‏ والوسوسة هي‏:‏ ما يلقى في القلب من الأفكار والأوهام والتخيلات التي لا حقيقة لها‏.‏ ‏{‏الْخَنَّاسِ‏}‏ الذي يخنس وينهزم ويولي ويدبر عند ذكر الله عز وجل وهو الشيطان‏.‏ ولهذا إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان له ضراط حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضي النداء أقبل حتى إذا ثوب للصلاة أدبر، حتى إذا قضي التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه، يقول‏:‏ اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يكن يذكر حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى‏.‏ ولهذا جاء في الأثر‏:‏ ‏"‏إذا تغولت الغيلان فبادروا بالأذان‏"‏، والغيلان هي الشياطين التي تتخيل للمسافر في سفره وكأنها أشياء مهولة، أو عدو أو ما أشبه ذلك فإذا كبر الإنسان انصرفت‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ‏}‏ أي أن الوساوس تكون من الجن، وتكون من بني آدم، أما وسوسة الجن فظاهر لأنه يجري من ابن آدم مجرى الدم، وأما وسوسة بني آدم فما أكثر الذين يأتون إلى الإنسان يوحون إليه بالشر، ويزينونه في قلبه حتى يأخذ هذا الكلام بلبه وينصرف إليه‏.‏ هذه السور الثلاث‏:‏ الإخلاص، والفلق، والناس كان النبي - صلى الله عليه وسلّم - إذا أوى إلى فراشه نفث في كفه ومسح بذلك وجهه، وما استطاع من بدنه، وربما قرأها خلف الصلوات الخمس‏.‏ فينبغي للإنسان أن يتحرى السنة في تلاوتها في مواضعها كما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبهذا نختم آخر جزء من القرآن وهو جزء النبأ‏.‏ والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين‏.‏